في ذكرى تقوربا:معضلة التباعد بين الغاية والأداء بقلم / الأستاذ عثمان صالح
نشر من قبل omaal في 16-03-2017

في ذكرى تقوربا:معضلة التباعد بين الغاية والأداء

By osman Salih.jpg

بقلم / الأستاذ عثمان صالح

خمسون عاما مرت وازدادت ثلاثا ثم يمر علينا نسيم هذا اليوم التاريخي 15/3/1964م الذي تربع في ذاكرة المسيرة النضالية الارترية ومايزال سيد المواقف وثالثة الأثافي مع -القاهرة في يوليو 1960م وأدال في سبتمبر 1961م- . نجدد الحديث عن ذلك الفعل البطولي الذي غير مجرى المنازلة بشكل كبير ووضع الثورة التي اريد لها ان توأد في المهد ، على اعتاب مرحلة جديدة من العزم والعنفوان والتفاؤل ، وولد تغلغلا وقبولا واسعا للمشروع الوطني الذي حملته جبهة التحرير . فيما باعدت نتائج تلك المعركة بين الاستعمار وأطماعه وطموحه ورغبته في قضاء سريع على الثورة التي وضعت راسها برأس أقوى مؤسسة عسكرية في القارة الافريقية. تعود علينا هذه الذكرى اليوم بعد عقدين ونصف من خروج جيش الاحتلال مهزوما من ارض ارتريا وبعد ان اصبحت الدولة الارترية واقعا والحلم الذي قاتل من اجله الارتريون حقيقة . ولكن بالمقابل تعود ذكرى تقوربا وقد تلاشت رغبة الارتريين في العيش بحرية على ارضهم وتعمق الحزن على ضياع الاماني وتضاعف مشوار البحث عن اسباب الحياة وتكاليفها في اوساط الارتريين اضعافا (فالقتل بالجملة والسجون بالجملة والهروب بالجملة وكراهية النظام وممارساته الاجرامية ايضا بالجملة بين الارتريين).

أقول ان تكاليف اعادة الحياة الطبيعية في ارتريا صارت مضاعفة بسبب موقف وممارسة الزمرة المتسلطة في اسمرا ، ذلك أن فئة المتسلطين قطعت مسافة بعيدة في تخريب مقومات الحياة الطبيعية في البلاد على المستوى النفسي والمادي. فبينما كان هدف مسيرة الثورة يتمحور حول طرد قوات الاحتلال بشكل اساسي وكانت التظلمات في معظمها ناتجة عن افعال المستعمر ، جاءت حقبة الاستقلال والحكم باسم الوطن بتراكم هائل من المظالم والجرائم تفوق في هولها وعمقها واضرارها تلك التي تسبب فيها المستعمر. وبمقابل هذا التراكم الهائل والتباعد الشاسع بين مطالب الشعب الارتري ومقتضيات حياته وبين مواقف وتصرفات النظام ، يظهر ان مشوار العودة الى الحال الذي امله الارتريون وضحوا من اجله بات جد (مكلفا) وربما بعيدا بعض الشيء(باستبعاد استحالته طبعا). لماذا؟

الصراع بين المستعمر والثورة وبرغم ما كان به من تكلفة باهظة من دماء وارواح واموال ، كان حبل الامل فيه مشدودا على وتيرة الفعل النضالي المتصاعد والمعارك اليومية وتوسع الالتحاق الطوعي للشباب بصفوف الثورة وتزايد السند السياسي لمطالب الارتريين في الحرية والانعتاق , الامر الذي هون عليهم وطأة تكاليف تلك الرحلة الطويلة .

 لكن اليوم وبالرغم من ان اسباب الصراع بين النظام ومن يقاوم منهجه تقوم على ذات العوامل التي حركتهم ودفعتهم نحو الثورة (الظلم الفادح من كافة الحقوق واحتكار الوطن وما يبدو من مظاهر اختطافه الآن) يفتقد الارتريون كثيرا من تلك العوامل .

         ففي الوقت الذي يتصاعد فيه تعنت النظام الدكتاتوري وتتزايد بشاعة ممارساته ، يقل بل ينعدم توجه الشباب الى صفوف المقاومة ويغلب منحى (نفسي ىفسي)في اوساطهم وهو في تقديري هذا هو اكبر الاسباب التي سترفع التكلفة في رحلة العودة من حيث (الزمن) المطلوب لتحقيق الهدف ومن حيث (المهر) المطلوب سداده . وهذا هو في تقديري جوهر واساس ضعف المقاومة مع عوامل ضعف اخرى  طبعا، وهو امر ذاتي يتطلب الوقوف عنده بجدية وبحث اسبابه وحل عقده . وفي المقدمة لابد من نظرة موضوعية الى ظاهر مكونات المسرح السياسي الارتري الحالي:1/ داخل الوطن (نظام ومقاومة)،2/خارج الوطن(مقاومة ، سند سياسي مادي قانوني اخلاقي). ولأجل مقارنة سريعة لابد من الإجابة على السؤال التالي: هل النظام في اسمرا له من عوامل القوة ما يتحدى به رغبة الارتريين في اصلاح الحال؟ ولأني اولا أؤمن بأن القوة الحقيقية هي في قوة المبادئ وشرعيتها ومدى انسجامها مع روح أوامر السماء ومصالح وقوانين اهل الأرض ، وارى ثانيا ان الطريق الى الإجابة الصحيحة تمر عبر النظرة الى الطرف الآخر للصراع فلا مناص من المرور بهذه البوابة.

1/المقاومة( لا ارى ان تسمية المعارضة تنطبق على حالنا):

بالاشارة الى ان اندفاع اللشباب الارتري وإلتحاقه بأعداد كبيرة الى صفوف جبهة التحرير الارترية بعد نتائج معركة تقوربا وتأثيراتها حتى منتصف السبعينات من القرن الماضي والى كل فصائل الثورة بعد التعدد ، قد ساهم في تصعيد تفاؤل الارتريين بالقدرة على تحقيق الاهداف رغم ما يشاهدونه على الارض من تفوق المستعمر عليهم في العدد والعدة والحليف. حقيقة كان ذلك تحولا حاسما في ميزان الصراع له ابعاده المؤثرة على طرفي المعادلة. فبقدر ما رفع من اسهم الطموح الارتري في الانتصار قلص من معنويات المقابل وخيب مسعاه الى حد كبير وحدّ من قدرته في توظيف جزء من الارتريين في حربه ضد الثورة . نعم كان هذا هو التحول الهام الذي قصم ظهر المستعمر ورفع من حماس الارتريين وأدائهم  الى مصاف الأسطورة . ولأنه كان أهم العوامل المؤثرة في نتيجة المعركة حسم في طريقه الى مبتغاه كل ماظهر من اسباب الضعف في الساحة من تمزق وفرقة وحتى انحياز الكبار الى معسكر الأعداء (وهذا امر جد هام). وفي تقديري ان كانت تلك اهم العوامل الحاسمة في سنوات الكفاح بحثا عن الحرية والاستقلال ، فستظل كذلك أهم عوامل ترجيح كفة مقاومة الظلم الذي تمارسه العصابة المهيمنة الآن وبالنتيجة سيكون استمرار غيابها بأغلبيتها عن مسرح الصراع بين النظام ومقاومته مكلفا من حيث الزمن الذي يتطلبه مشوار العودة ومن حيث المهر المطلوب تقديمه لذلك . وهنا يكمن أهم اسباب ضعف المقاومة وهو في تقديري أهم اسباب قوة النظام ولهذا نرى النظام ووكلاءه حريصين ويجتهدون باستمرار لإبقاء الشباب بعيدا عن ساحة الصراع – وقد اصبحت الكرة الارضية كلها قابلة لأن تكون ساحة صراع بين الحق والباطل تتغذى اركانها من بعضها وتصب جميعها في بوتقة لتنتج فعلا موحدا في المركز المحدد وبهذا المعنى المطلوب افعال نضالية متنوعة وليس هناك ميدان مطلوب التوجه اليه كما كان الامر في عهد الكفاح المسلح . المهم أن يؤدي كل دوره حيث هو وسينجح الفعل الموحد حتما في تحقيق النتيجة - فالنظام وان كان لايريدهم معه ولكن لا يريدهم ضده وهذا هو الاهم وتجتهد ادواته الظاهرة والخفية على ادامة هذا الجفاء وتبرير احجام الشباب عن الانضمام الى المقاومة وبث روح اليأس فيهم وتسويق اسباب معقولية ابتعادهم عن الركب من قبيل تعدد المعارضة وخلافاتها وغيره من الظواهر التي سيحلها وجودهم في المعترك تلقائيا . إذن وبهذا فالنظام لايملك عوامل قوة ذاتية اصلية وانما بالواسطة ولذلك فهو (ليس قويا) ولكن المقاومة هي (الضعيفة) وشتان بين الأمرين . النظام يفهم اساب ضعف المقاومة اكثر من المقاومة نفسها وحريص على استمرارها لانها باختصار هي أهم اسباب قوته ، فالحرب تبدأ من هنا وتنتهي هنا فعلينا ان ننتبه – والشباب المعنيون بالدرجة الأساس - ونوفر في انفسنا اسباب النصر على النظام .

   2/ تعدد التنظيمات صراع على الهدف ام اختلاف حوله؟

اختلف بعض الشيء مع من يرى ان التعدد في صفوف المقاومة في ذاته يشكل عامل ضعف من منطلق لانه اضحى احد ركائز التماسك والتعايش بين الشعوب اولا ، وفقدانه صار احد عوامل الثورات والمقاومات على مستوى االعالم ثانيا ، ولأن القبول وتجاهل اضرار سياسة التنظيم الواحد والحزب الواحد التي طبعت تجرتنا السياسية القريبة في عهدي الثورة والدولة هي التي جرت هذا الوضع الماساوي ثالثا ، ولأن التعدد في الفترة التي تعارفنا على تسميتها بفترة تقرير المصير هو الذي حقق لنا نضوحا سياسيا ووعيا وطنيا فجرنا به الثورة وحققنا به الانتصار على اعداء وخصوم كثر ارتريين وغيرهم رابعا . علاوة على ان ما نسعى اليه في الحياة البديلة لـ(حادي هزبي حادي لبي)هو أن نبسط ونرعى هذا التعدد للجميع بمعنى ان تقوم الحياة السياسية التنافسية عليه كما ان المتفق عليه من حد ادنى حتى الآن بين القوى السياسية الارترية (ماعدا النظام) فيما يجمع بينها من اطر عمل يقر هذا الموقف ويطالب باحترامه. لكنني معهم في بعض تحفظاتهم من ان الاّ يتحول التعدد الى قاعدة للصراع المفضي الى الاحتراب وتعطيل الفعل ويتخذ احترام الحقوق في اختيار المذاهب السياسية والفكرية الى بوابة للاساءة على الثوابت الوطنية والتهجم على القناعات والدين او تتخذ مدخلا للاضرار بما ارسته التضحيات العظيمة لشعبنا ونضاله البطولي في الدولة المستقلة. كما انه من بعض صور الاعوجاجات التي انتجتها حالة المراوحة التي تعيشها مسيرة الارتريين من اجل ازالة النظام ومظالمه ورغبتهم الملحة في القضاء على منهج الهيمنة الذي اسسته العصابة المتسلطة ، الخلط الكبير بين الاهداف المركزية والمواقف والاجراءات التكتيكية وكذلك الاسباب والنتائج من قبيل وضع المطالب المتأخرة عائق امام الاجراءات الضرورية الآنية العاجلة لاسقاط النظام. فاقرار مفهوم التعدد في هذه المرحلة او ما يليها من مراحل يجب الا يؤدي الى ان تتصارع تنظيمات المعارضة حول الهدف المرسوم بما يضيعه او يشوشه اويعرقل السير نحوه ، بينما لاباس في ان تتنافس وتتسابق على تحقيقه كوسيلة اساسية من وسائل الاستحقاق السياسي والكسب الجماهيري.

3/ السند السياسي والمالي والقانوني والاخلاقي:

التجربة الارترية علمتنا ان هذه التعاطفات مكتسبة عبر الجهد . والسياسة الدولية عموما ليست مع المظلوم انما مع الغالب والدول كالافراد تماما مجبولة للدفاع عن مصالحها( المشروعة وغير المشروعة) وهي مصالح تعيش في اغلب الاحيان في كنف وحماية االمنتصرين . وللاسف فان القانون والاخلاق في عالمنا اليوم مستنبطان من هذه المصالح التي تعتاش على حساب المظلومين والمقهورين ويدوران معها اينما دارت. وعلى هذا الاساس فمن المتوقع ان ان نجدهما الى جوارنا يوما يدافعان عنا عندما نستطيع ان نشكل بجهدنا وتضحياتنا قدرا من الخطر على مصالح الكبار الذين وضعونا في فم الامبراطورية الاثيوبية في الخمسينات حفاظا على مصالحهم الاستراتيجية كما قال وزير الخارجية الامريكي حينها . والنظام يستفيد في حربه علينا من هذا الارث السيء اقصى استفادة فلا تلومن الا انفسكم ايها الارتريون اذا استمر هذا التباعد بين الغاية والأداء.