الى الشهيد سعيد علي حجاي في الذكرى الأولى لاستشهاده بقلم لسان الدين عثمان
نشر من قبل omaal في 16-01-2014

الى الشهيد سعيد علي حجاي في الذكرى الأولى لاستشهاده

لسان الدين عثمان

أن تكون أو لا تكون، قرار لا يتسنى إلا لقلة قليلة جدا من الرجال. فلهذا كان قرارك صادرا عن نفس أبية، وهامة شامخة جعلتك تختار الشهادة واقفاً، وتبدي شهامة حتى مع من تجاوز معك حدود اللياقة بألفاظ عنصرية. اخترت الشهادة على طلب الصفح لان الشهادة حتما مقضيه اما تحت التعذيب أو بحقنة غدر من هيلي محصون.

كنت وحدك من أدرك بأن الشعبية غابة من الوحوش لا يعيش فيها المرء وإلا وسبابته على الزناد، ولا ينام وإلا مغمضا نصف عين، لأن المبدأ فيها هو " أي تقدم". أي من أطلق النار أولا هو الفائز بالحياة فيها، ولكن أي حياة!

الشعبية تنظيم يؤمن بان قتل الناس أسهل من السيطرة عليهم، وهو ما يحاولون ان يورثه اليوم للأجيال الصاعد، ويعترونه سلوكا ثوريا.

نعم وحدك من أدرك بأن الجبهة الشعبية عصابة تقودها مجموعة من الصعاليك يستهزؤون بكل ما نعتبره قيمة وطنية وبعد إنساني في حياتنا. وكيف لا، فمن لم يرحم جرحي ومعوقي حرب التحرير لن يرحم من خرج في وضح النهار متحديا لما يعتبرونه خروجا على التقاليد التنظيمية، ناهيك عن المطالب السياسية التي قدمتها.

صعاليك أصروا منذو الوهلة الأولى على الاختلاف مع الأخر في كل شيء من اسم الوطن إلى العلم إلى قراءة خريطة المكونات. قيادة لا تبحث عن ما هو مشترك بقدر إصرارها على إبراز عناصر التمايز والاختلاف.

وأنت وحدك كنت تدرك بأن بيئة كبسا التي أنجبت هذه العصابة الإجرامية تعاني أصلا من اختلال في توازنها البيئي، وتعاني من أزمة أخلاق أفرزت هذا النوع من التفكير اللا عقلاني في التعاطي من قضايا الشعوب وحياة الإنسان.

والإنسان فيها لا يفكر إلا بمنطق من بعدي والطوفان، ولهذا يحيك المؤامرات،  وينصب المكائد دون ادني اعتبار لعقود من التضحيات المشتركة. انهم نتاج بيئة يدمر فيها الإنسان كل ما حوله ليلبي حاجة آنية. بيئة يدمر فيها الإنسان غابة على مدار أعوام ليبني منها دار اسمه " هدمو"، وينجر صخور ليتباهي في نهاية المطاف بجحر يضمه مع كل ما يمتلكه من الأنعام، من حمير وبقال وثور وأغنام ودجاج وحتى الكلاب، حيث يعرف كل منهم مكان نومه داخل هذا القصر " الهدمو".

والبنين البنات يهنئون بالنوم وسط هذا الخليط من الحيوانات في هذا الدار الذي يتسع حتى لممارسة الحب على إيقاع شخير الأبناء، وأنفاس الحيوانات ونقنقة الدجاج، ونهيق الحمار.

إنه قصر لا يفتح أبوابه إلا مع الإطلالات الأولى لشروق الشمس. لأن الأعراف فيه تسمح بقضاء ما خف من الحاجة داخله، حيث يسمح بالتبول في إناء أو عند عتبة الباب. وكيف لا، والحيوانات نفسها تقضي حاجتها داخله، فما بال الإنسان الذي كرمه الله وأعزه على غيره من المخلوقات. 

لم اصدق هذا الواقع عندما سمعته أول مرة من الدكتور الاسكندر ناتي أستاذ علم الانثروبولوجيا في جامعة أسمرة، الذي مرت بضع أسابيع على الذكرى العاشرة لوفاته في أسمرة في ظروف غامضة في 9 ديسمبر 2003م، وبعد ثلاثة أسابيع من إيقافه عن العمل في جامعة أسمرة، ومنعه من السفر بعد سحب جوازه، بحجة التطاول على قومية التجرينية، وانتقاده لانتهاكاتهم بحق أهله الكوناما. ولكن حمدا لله وللخدمة الوطنية ولأول حرب اتخذت من المرتفعات ساحة لها، وخرج منها الشعب الارتري بشق الأنفس، بفضل من الله وحنكة ذلك العجوز بوتفليقة، حيث تمكنت حينها من الوقوف على هذه الحقيقة بنفسي في القرى النائية بالإقليم الجنوبي.

فالإنسان محتوى قيم ثقافية، والهوية عقل الإنسان. وان سألت لماذا كل هذا يأتيك الرد بأن الذئاب والثعالب باعتبارها الحيوانات البرية الوحيدة الموجودة في تلك البيئة تغدر بنا وتأكل حيواناتنا إن تركناه خارج الدار، ولهذا ندخلها في البيت معنا، وليس في ذلك شيء!

 نعم ليس في ذلك شيء، ما دمتَ تعيش في بيئة تسودها ثقافة الغدر والخيانة، وما دامت الصدور تتسمع إلى هذا القدر من التسامح.

ثقافة كبسا، لمن لا يعرفها، تبيح كل شيء في سبيل السلطة والمال، من الاتجار بالمخدرات الى الاتجار بالبشر. فمنذ القدم، والإنسان عندهم إما بعل سلطان أو"جبار" أي صاحب سلطة، أو قناً، يستعبده صاحب السلطة أو الأعراف السائدة. وما بينهما جندي يتصرف مثل كلب الصيد لإرضاء صاحب السلطة، ورجل دين يبرر السطوة.

بينما أنت اخي سعيد، فمن بيئة لا تؤمن بسلطان لأحد إلا لله وحده.  ومن بيئة كان الناس فيها يتعايشون مع الأسود فأخذوا طباعها. فعندما اقتضت الضرورة عبرت بالطريقة المألوفة في بيئتك فخرجت نهار لتحقيق رغبة شعبك، دون ان تعير اهتماما للبيئة التي أنت فيها وتسودها ثقافة الذئاب والثعالب.

ولهذا كان رد فعلهم الأولي على ثورتك في فورتو 21 يناير، يتلخص في "أنهم يريدون السلطة"، دون اعتبار للمطالب التي قدمتها، والتي لم تتضمن مفاهيم " نحن" و" هم" التي كرستها حكومة الشعبية.

فمفردات كالحرية والعدالة والتسامح والحكم والإنسانية، والشهامة والمرؤة، تعابير ليس لها مقابل في لغتهم، اللهم ما استحدث منها. بل ليس لكلمة "الانسان" نفسها وجود الا اسما مركبا، أو منسوبا. ومع هذا هنالك تفخيم وتقييم خاطئ للذات، وهو لا محالة ما سيدفع بهم خارج التاريخ.

وأنت من بيئة لا يحسد أهلها على القوت، او تحاك فيها المكائد لمجرد الكسب المادي أو للاستيلاء على أملاك ليس ذات قيمة دائمة. وهذا بالطبع قبل أن يطأها هؤلاء القوم ويجعلوا عاليها سافلها، ويحولوا أرضها الى صحاري قاحلة.

أنها أزمة أخلاق وأزمة ضمير يعاني منها مجتمع التجرينية، الذي يعتبر الاعتراف بالذنب مذمة، بينما عند الآخرين فضيلة. 

فأي عدو عاقل يظهر هذا القدر من الوحشية حتى مع أطفال وعوائل من اختلقوا معهم الخلاف. كيف يعاقب أطفال لمجرد أن أبائهم اختلفوا مع "النظام" وما الذنب الذي اغترفوها ليطردوا من بيوتهم، ويشردوا في الشوارع، ويقاطعوا تعليمهم. آلا يكفي فقد الأباء!

وأي أخلاق هي التي تجعل أطباء في مستشفى حليبت يرفضون علاج سجناء يتأوهون من الآلام لمجرد إظهار الولاء "لنظام" فاشي، وليشفوا غليلهم الطائفي. فالطرد من البيوت ورفض العلاج ، حسب علمي، هو إجراء يتخذ فقط ضد المسلمين، وكل من يقول بغير طائفية النظام في هذا الصدد هو إما منافق أو شيطان أخرس.     

 إنها نفس الثقافة التي تتصالح نهارا وتغدر ليلا، ليقضى الله أمرا كان مفعولا. إنها نفس ثقافة الغدر التي استدرجت عشرات المقاتلين إلى الداخل بعد التحرير ليغدر بهم في جنح الظلام بعد إعطائهم الأمان.

ومن خذلوك من رفاق السلاح هم نتاج نفس المدرسة التي أعطت ظهرها لأشهر قادتها في لحظات تاريخية كانت تتطلب مواقف بطولية. فقد تخلو منذ اللحظة الأولى عن أبراهام تولدي الذي قادهم إلى عالا، وعن كل من أطلق عليهم جورا وظلما بالمنكع واليمين، وهو نفس الجيش الذي تخلي عن أشهر قائدته العسكريين إبراهيم عافة.

 والقائمة تطول وتطول لتشمل المعوقين ومجموعة 15، والصحفيين وأعضاء حركة الحرية الآن، وحتى من رفعوا مذكرة التظلم عبر القنوات الرسمية للحزب والحكومة ضد الممارسات العنصرية من أبناء إقليم القاش بركة.

وكلنا يذكر عام 2001، عندما تشكلت لجنة من الأعيان والوجهاء للتوفيق بين اسياس ومجموعة 15، ووصلت محاولاتهم الى طريق مسدود، بسبب تعنت اسياس، فقرروا ان يصدروا بيان يطلعوا فيه الشعب بفشل مهمتهم، ولكن عندما اعد البيان انسحب المسيحيون من التوقيع فقدموا زملائهم المسلمين لقمة صائغة لسجون اسياس. ونذكر منهم المرحوم هداد كرار، والمرحوم صنوبرا، وحسن كيكيا، والعم عبده احمد يونس فك الله أسره.

وما لم يدركه أو يتنبه إليه معظمنا هو الدور الخطير الذي يضطلع به عشرات اللقطاء والمندسين في مواقع حساسة لأجهزة الدولة، والذين لا تتوفر فيهم أدنى شروط المواطنة الا مصادفة المولد مثل مانكي، وحقوص كشة. والقائمة طويلة، ولكن المهم هو ان هؤلاء يبحثون دوما عن جوانب تعمق الاختلاف السياسي وتمنحه مسحة طائفية، ليقطعوا كل سبل التلاقي، وبهذا أصبحوا الرابح الأكبر منذ الانقضاض على مجموعة 15. 

شكرا، لأنك أعطيتنا درسا في كيف ينبغي ان تكون المقاومة، وكيف تنال الشهادة، في زمن أصبحت فيه البطون هي التي تحدد الأوطان. وفي زمن غدت فيه أعمال المقاومة تكرار لتجارب عقيمة ومملة . زمن فيه لكل عشيرة تنظيم، تتخذ المنابر ساحة للنواح حينا، وللمجاملات الاجتماعية في أحيان أخرى. لا رؤية وطنية شاملة او ناقصة ولا فكر يعبئ الطاقات ويوجه المسيرة، فكل ما تركتنا عليه يا ودي علي انه سوق نخاسة سياسية.

نعم كان قرارك ردا حاسما، بأنه لا تغيير إلا من الداخل، ولكل تغيير ضريبة لابد من تحصيلها.

شكرا، لان رسالتك بلغت الجميع، وغنى وهتف باسمك الجميع، وفي لحظة تاريخية فارقة وحدت كل هذا الشتات في مشارق الأرض ومغاربها، وأزحت أخر الأقنعة عن الملك غير المتوج وجعلته يعتمد على أهله الحقيقيين من التجراي في حماية عرشه.

والجيش الشعبي من بعدك محروم حتى من دخول عاصمته أسمرة. فلا غرابة في ذلك لأنه "حامل المشقة" الذي يساق كالقطيع إلى الحرب والسلم.

ولكن ما دامت العصابة هي نفسها والعقلية هي هي، والجيش هو نفسه، فلماذا نلدغ من نفس الجحر عشرات المرات، وبنفس الكيفية. ونحن ندرك بأن العنف المفرط للنظام لا يعكس في طياته إلا الضعف الشديد، وانعدام الحجة، وحالة الإحباط والقلق اللتان تسيطران على تصرفاته.

كيف نمارس عملا سياسيا بهذا القدر من العفوية على مدى أكثر من نصف قرن، دون أن نفكر في حقيقة من نعتبره شريكا ويضعنا في خانة العدو!

إنها أزمة ثقة بين مكونين أساسيين للأمة تتعمق كل يوم، فكيف سيتم تضميد جراحها؟

14 يناير 2014

Lesanoth1@yahoo.com